قبل المباشرة بمحاضرة اليوم بعنوان: التأثير الكولونيالي على الهويّة الجندريّة من خلال العدسة الوهميّة للدراغ العربي في منطقة الرافدين والثلاثة بحور آخر ٨٠٠ سنة
…تريد زيزي أن تؤكّد بضرورة الأخذ بعين الاعتبار أنّ زيزي لا تؤمن بالحقائق المطلقة أو الوقائع الخالدة. التاريخ، مثل الجندر، خاضع لإعادة التأويل دائما. وكلّما خضع التاريخ، مثل الجندر، لمحاولة التعريف، ابتعد عن الحقيقة.
Zizi wants you all to consider this lecture a work in progress. Zizi does not believe in timeless truths or concrete realities. History like gender is up for eternal interpretation. For the more it [history or gender] is defined, the less it is real.
في الثمانينات، في سنين المراهقة وقراءة نوال سعداوي وكتابة رسائل الحب للاعب الفوتبول في مدرستي فراس العجارمة، أيّام البوط الممزوع والجرابات الملوّنة كل فردة شكل، أيّام الشعر أبو موس والغرّة أم سبراي نص متر لفوق (مش شعري طبعا، شعر ميس السمرا، ميس البيضا كان شعرها مالس)، ابتدأت دراساتي حول موضوع الأداء الجندري (في محاولة منّي للتهرّب من السكّر وعمليّات إزالة الشعر). ابتدأت هذه الدراسات من، كما يقول الأمريكيينmy own backyard. قمت بعقد المقارنة ما بين أهل أبوي وأهل أمي. جدّتي أنيسة وجدّي عبدالله من جهة وتيتا أم أروى وجدّو أبو أروى من جهة تانية. المقارنة ما بين بيتين يفصل بينهما ٨٠ كيلو تقنيّا ولكن بينهما قرون من الزمن وفروقا شاسعة في الميزانيّات–ما يفصل ما بين المدينة والقرية. لعلّ الأمر يبدو مختلفا اليوم حيث ابتلعت أشباه المدن قرانا، ولكن، وفي لحظة ما، كان الفرق ما بين القرية والمدينة كالفرق ما بين الشرق والغرب، الفرق ما بين الحداثة وما قبل الحداثة، الفرق ما بين الدشداشة والبنطلون.
في يوم من الأيّام، وبالوسط تتفجّر روائح البصل والدجاج والخبز المحمّر بزيت الزيتون من صينيّة مكمورة اشتغلت عليها جدّتي منذ الساعة الرابعة صباحا، جلست مع عمّاتي وعمّي وأزواج وزوجات وأولاد وبنات عموم وإخوة وأخوات، نتناول إحدى أشهى ما ساهمت به إيدون للبشريّة. وقطعة الدجاج التي تحضنها الخبزة في يدي، بحلقت من جدّتي إلى جدّي وبالعكس وصفنت وصرخت آآآآآه عندما أدركت شيئا مهمّا جدا. أدركت بأنّ جدّتي وجدّي، فلّاحَيْن، ولدا وعاشا وتوفّيا (الله يرحمهما) في نفس القرية في شمال الأردن، يرتديان نفس الملابس. بالحقيقة، أخذا بعين الاعتبار أنّ الأقمشة تغطّيهما تقريبا من ساسهم إلى راسهم، من الصعب تحديد إن كان الاختلاف كبيرا بينهما من وراء هذه الملابس. لكن ما بين غطاء الرأس والثوب، يمكنهما تبادل الملابس فعليّا “هييي يا أبو سامي، ما لحقتش أغسل، عندك كلسون زيادة؟”
عمليّا جدّي وجدّتي كانوا يلبسوا فساتين لحد ما ماتوا. ما عمري شفت جدّي ببنطلون.
يعني، لو كان جدّتي وجدّي عائدين من الحقل وشمس الغروب خلفهما تتغنّج على جبال فلسطين، لا يمكن تمييزهما جندريّا. واضح أنّ الأمر لم يكن ذو أهميّة كبيرة، مش ضروري يعرف الغرباء أو الأصدقاء أو الشرطة من الرجل ومن الامرأة عن بعد.
في المقابل، كانت من أهمّ علامات مواكبة ما يوصف بالحداثة في المدن هي الملابس. والحداثة التي لفحت مناطق العالم الثالث جاءت مثل الفصّ بلا ميعاد، أمواجا متسارعة حملتها إدارات وأدوات الاستعمار العسكريّة والثقافيّة. تدريجيّا، بات الرجال يرتدون البنطال وانحصر الثوب (بأشكال مثل الفستان والتنورة) بالنساء، بل وأصبح من المضحك إن لم يكن المأساوي أن يرتدي الرجال أي شئ غير البنطلون.
تيتا أم أروى كانت لبّيسة، ترتدي الفساتين آخر موضة وجدّي أبو أروى كان دائما أنيقا ع التكّة بالبدلة. شخصيّات تسكن في المدينة وتعكس الحداثة بأحلى حُلّة. الحلّة الشرعيّة الوحيدة فعلا.
جاء الاستعمار بنظام الدولة القوميّة. النظام الحديث الذي نشره الغرب وكأنّه القميص الذي يؤهّل من يرتديه ليصبح جزءً من فريق عالميّ وإلّا لن يلعب مع الشاطرين. تأكّدت هذه الأدوار الجندريّة التي كانت مُنظّمة أصلا ضمن إطار النظام الأبوي بقوانين الدولة القوميّة الحديثة. قد تكون الملابس أمرا سطحيّا ولكن يمكن قراءة الكثير من الأمور من خلالها. من المثير للإهتمام مثلا، أنّ الملابس انتقلت، لتواكب التغيّر الخاطف والجوهريّ في النظام السياسيّ، من ثوب تقليديّ إلى جينز بدون المرور بمراحل الثوب المصنوع من جينز أو الجينز المطرّز مثلا. تغريب عنيف عن الثقافة المحليّة المتنوّعة، تهميش وقصي وطفس ولعن أبو أفطاس كل ما يهدد صورة الدولة الحديثة المعاصرة الإقليميّة الغربيّة من بدو وفلاحين ونساء وأطفال وكبار ومعاقين وخولات وسحاقيّات.
لا شكّ أنّ الملابس تعابير فرديّة وجماعيّة مركّبة وتتأثّر بالاقتصاد والموضة والطقس ولكنّها أدوات أيضا وتستخدم لمختلف الأغراض: اختفاء الملابس التقليديّة مثلا إشارة للتحضّر، أو عودة بعض رموز الملابس التقليديّة إشارة للوطنيّة. تقصير الثوب، تطويل الكم، زمّ الإيشارب، وغيرها من التفاصيل لإشهار ولاء لعقيدة أو شيخ ما وغيرها. كما وتستخدم الملابس كوسائل لقمع بعض الأفراد والجماعات: تي شيرتات بون جوفي تذهب بمرتاديها للسجن بتهمة عبادة الشيطان….